فصل: ذكر عدة حوادث:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة تسع عشرة وأربعمائة:

.ذكر الحرب بين بدران ونصر الدولة:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، سار بدران بن المقلد العقيلي في جمع من العرب إلى نصيبين وحصرها، وكانت لنصر الدولة بن مروان، فخرج إليه عسكر نصر الدولة الذين بها، وقاتلوه، فهزمهم، واستظهر عليهم، وقتل جماعة من أهل نصيبين والعسكر، فسير نصر الدولة عسكراً آخر نجدة لمن بنصيبين، فأرسل إليهم بدران عسكراً، فلقوهم، فقاتلوهم وهزموهم، وقتلوا أكثرهم. فأزعج ذلك ابن مروان، وأقلقه، فسير عسكراً آخر ثلاثة آلاف فارس، فدخلوا نصيبين، واجتمعوا بمن فيها، وخرجوا إلى بدران فاقتتلوا، فانهزم بدران ومن معه بعد قتال شديد، وقت الظهر، وتبعهم عسكر ابن مروان.
ثم عطف عليهم بدران وأصحابه، فلم يثبتوا له، فأكثر فيهم القتل والأسر، وغنم الأموال، فعاد عسكر ابن مروان مفلولين، فدخلوا نصيبين، فاجتمعوا بها واقتتلوا مرة أخرى، وكانوا على السواء، ثم سمع بدران بأن أخاه قروشاً قد وصل إلى الموصل، فرحل خوفاً منه لأنهما كانا مختلفين.

.ذكر شغب الأتراك ببغداد على جلال الدولة:

في هذه السنة ثار الأتراك ببغداد على جلال الدولة، وشغبوا، وطالبوا الوزير أبا علي بن ماكولا بما لهم من العلوفة والادرار، ونهبوا داره ودور كتاب الملك وحواشيه حتى المغنين والمخنثين، ونهبوا صياغات أخرجها جلال الدولة لتضرب دنانير ودراهم، وتفرق فيهم، وحصروا جلال الدولة في داره، ومنعوه الطعام والماء حتى شرب أهله ماء البئر، وأكلوا ثمرة البستان. فسألهم أن يمكنوه من الانحدار، فاستأجروا له ولأهله وأثقاله سفناً، فجعل بين الدار والسفن سرداقاً لتجتاز حرمه فيه، لئلا يراهم العامة والأجناد، فقصد بعض الأتراك السرادق، فظن جلال الدولة أنهم يريدون الحرم، فصاح بهم يقول لهم: بلغ أمركم إلى الحرم! وتقدم إليهم، وبيده طبر، فصاح صغار الغلمان والعامة: جلال الدولة يا منصور، ونزل أحدهم عن فرسه وأركبه إياه، وقبلوا الأرض بين يديه.
فلما رأى قواد الأتراك ذلك هربوا إلى خيامهم بالرملة، وخافوا على نفوسهم، وكان في الخزانة سلاح كثير، فأعطاه جلال الدولة أصاغر الغلمان وجعلهم عنده، ثم أرسل إلى الخليفة ليصلح الأمر مع أولئك القواد، فأرسل إليهم الخليفة القادر بالله، فأصلح بينهم وبين جلال الدولة، وحلفوا، فقبلوا الأرض بين يديه، ورجعوا إلى منازلهم، فلم يمض غير أيام حتى عادوا إلى الشغب، فباع جلال الدولة فرشه وثيابه وخيمه وفرق ثمنه فيهم حتى سكنوا.

.ذكر الاختلاف بين الديلم والأتراك بالبصرة:

في هذه السنة ولي النفيس أبو الفتح محمد بن أردشير البصرة، استعمله عليها جلال الدولة، فلما وصل إلى المشان منحدراً إليها وقع بينه وبين الديلم الذين بالمشان وقعة فاستظهر عليهم وقتل منهم.
وكانت الفتن بالبصرة بين الأتراك والديلم، وبها الملك العزيز أبو منصور ابن جلال الدولة، فقوي الأتراك بها، فأخرجوا الديلم، فمضوا إلى الأبلة، وصاروا مع بختيار بن علي، فسار إليهم الملك العزيز بالأبلة ليعيدهم ويصلح بينهم وبين الأتراك، فكاشفوه وحملوا عليه، ونادوا بشعار أبي كاليجار، فعاد منهزماً في الماء إلى البصرة، ونهب بختيار نهر الدير والأبلة وغيرهما من السواد، وأعانه الديلم، ونهب الأتراك أيضاً، وارتكبوا المحظور، ونهبوا دار بنت الأوحد بن مكرم زوجة جلال الدولة.

.ذكر استيلاء أبي كاليجار على البصرة:

لما بلغ الملك أبا كاليجار ما كان بالبصرة سير جيشاً إلى بختيار، وأمره أن يقصد البصرة فيأخذها. فساروا إليها، وبها الملك العزيز جلال الدولة، فقاتلهم ليمنعهم، فلم يكن له بهم قوة، فانهزم منهم، وفارق البصرة، وكاد يهلك هو ومن معه عطشاً، فمن الله عليهم بمطر جود، فشربوا منه، وأصعدوا إلى واسط.
وملك عسكر أبي كاليجار البصرة، ونهب الديلم أسواقها، وسلم منها البعض بمال بذلوه لمن يحميهم، وتتبعوا أموال أصحاب جلال الدولة من الأتراك وغيرهم. فلما بلغ جلال الدولة الخبر أراد الانحدار إلى واسط، فلم يوافقه الجند، وطلبوا منه مالاً يفرق فيهم، فلم يكن عنده، فمد يده في مصادرات الناس وأخذ أموالهم لا سيما أرباب الأموال، فصادر جماعة.

.ذكر وفاة صاحب كرمان واستيلاء أبي كاليجار عليها:

في هذه السنة، في ذي القعدة، توفي قوام الدولة أبو الفوارس بن بهاء الدولة، صاحب كرمان، وكان قد تجهز لقصد بلاد فارس، وجمع عسكراً كثيراً، فأدركه أجله. فلما توفي نادى أصحابه بشعار الملك أبي كاليجار، وأرسلوا إليه يطلبونه إليهم، فسار مجداً، وملك البلاد بغير حرب ولا قتال، وأمن الناس معه، وكانوا يكرهون عمه أبا الفوارس لظلمه وسوء سيرته، وكان إذا شرب ضرب أصحابه، وضرب وزيره يوماً مائتي مقرعة، وحلفه بالطلاق أنه لا يتأوه، ولا يخبر بذلك أحداً، فقيل إنهم سموه فمات.

.ذكر استيلاء منصور بن الحسين على الجزيرة الدبيسية:

كان منصور بن الحسين الأسدي قد ملك الجزيرة الدبيسية، وهي تجاور خوزستان، ونادى بشعار جلال الدولة، وأخرج صاحبها طراد بن دبيس الأسدي سنة ثماني عشرة وأربعمائة، فمات طراد عن قريب، فلما مات طراد سار ابنه أبو الحسين علي إلى بغداد يسأل أن يرسل جلال الدولة معه عسكراً إلى بلده ليخرج منصوراً منه ويسلمه إليه، وكان منصور قد قطع خطبة جلال الدولة وخطب للملك أبي كاليجار، فسير معه جلال الدولة طائفة من الأتراك، فلما وصلوا إلى واسط لم يقف علي بن طراد حتى تجتمع معه طائفة من عسكر واسط، وسار عجلاً.
واتفق أن أبا صالح كوركير كان قد هرب من جلال الدولة، وهو يريد اللحاق بأبي كاليجار، فسمع هذا الخبر، فقال لمن معه: المصلحة أننا نعين منصوراً، ولا نمكن عسكر جلال الدولة من إخراجه، ونتخذ بهذا الفعل يداً عند أبي كاليجار. فأجابوه إلى ذلك، فسار إلى منصور واجتمع معه، والتقوا هم وعسكر جلال الدولة الذين مع علي بن طراد ببسبروذ، فاقتتلوا، فانهزم عسكر جلال الدولة، وقتل علي بن طراد وجماعة كثيرة من الأتراك، وهلك كثير من المنهزمين بالعطش، واستقر ملك منصور بها.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة سار الدزبري وعساكر مصر إلى الشام، فأوقعوا بصالح بن مرداس وابن الجراح الطائي، فهزمهما، وقتل صالحاً وابنه الأصغر، وملك جميع الشام، وقيل سنة عشرين.
وفيها توفيت أم مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه، وهي التي تدبر المملكة وترتب الأمور.
وفيها عزل الحسن بن علي بن جعفر أبو علي بن ماكولا من وزارة جلال الدولة، وولي الوزراة بعده أبو طاهر المحسن بن طاهر، ثم عزل بعد أربعين يوماً، وولي بعده أبو سعد بن عبد الرحيم.
وفيها توفي قسطنطين ملك الروم، وانتقل الملك إلى بنت له، وقام بتدبير الملك والجيوش زوجها، وهو ابن خالها.
وفيها توفي الوزير أبو القاسم جعفر بن محمد بن فسانجس بأربق.
وفيها عدمت الأرطاب بالعراق للبرد الذي تقدم في السنة قبلها، وكان يحمل من الأماكن البعيدة الشيء اليسير منه.
وفيها انقطع الحج من العراق، فمضى بعض حجاج خراسان إلى كرمان، وركبوا في البحر إلى جدة، وحجوا.
وتوفي في هذه السنة محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد أبو الحسن التاجر، وهو آخر من حدث عن إسماعيل بن محمد الصفار، ومحمد بن عمرو الرزاز، وعمر بن الحسن الشيباني، وكان له مال كثير، فسافر إلى مصر خوف المصادرة، فأقام بها سنة، ثم عاد إلى بغداد، فأخذ ماله في التقسيط على الكرخ الذي ذكرناه سنة ثماني عشرة وأربعمائة، فافتقر، فلما مات لم يوجد له كفن، فأرسل له القادر بالله ما يكفن فيه. ثم دخلت:

.سنة عشرين وأربعمائة:

.ذكر ملك يمين الدولة الري وبلد الجبل:

في هذه السنة سار يمين الدولة محمود بن سبكتكين نحو الري، فانصرف منوجهر بن قابوس من بين يديه، وهو صاحب جرجان وطبرستان، وحمل إليه أربعمائة ألف دينار وأنزالاً كثيرة.
وكان مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه، صاحب الري، قد كاتبه يشكو إليه جنده، وكان متشاغلاً بالنساء، ومطالعة الكتب ونسخها، وكانت والدته تدبر مملكته، فلما توفيت طمع جنده فيه، واختلت أحواله، فحين وصلت كتبه إلى محمود سير إليه جيشاً، وجعل مقدمهم حاجبه، وأمره أن يقبض على مجد الدولة. فلما وصل العسكر إلى الري ركب مجد الدولة يلتقيهم، فقبضوا عليه وعلى أبي دلف ولده.
فلما انتهى الخبر إلى يمين الدولة بالقبض عليه سار إلى الري، فوصلها في ربيع الآخر، ودخلها وأخذ من الأموال ألف ألف دينار، ومن الجواهر ما قيمته خمسمائة ألف دينار، ومن الثياب ستة آلاف ثوب، ومن الآلات وغيرها ما لا يحصى، وأحضر مجد الدولة، وقال له: أما قرأت شاهنامه، وهو تاريخ الفرس، وتاريخ الطبري، وهو تاريخ المسلمين؟ قال: بلى! قال: ما حالك حال من قرأها، أما لعبت بالشطرنج؟ قال: بلى! قال: فهل رأيت شاهاً يدخل على شاه؟ قال: لا. قال: فما حملك على أن سلمت نفسك إلى من هو أقوى منك؟ ثم سيره إلى خراسان مقبوضاً، ثم ملك قزوين وقلاعها، ومدينة ساوة وآبة، ويافت، وقبض على صاحبها ولكين بن وندرين، وسيره إلى خراسان.
ولما ملك محمود الري كتب إلى الخليفة القادر بالله يذكر أنه وجد لمجد الدولة من النساء الحرائر ما يزيد على خمسين امرأة، ولدن له نيفاً وثلاثين ولداً، ولما سئل عن ذلك قال: هذه عادة سلفي. وصلب من أصحابه الباطنية خلقاً كثيراً، ونفى المعتزلة إلى خراسان، وأحرق كتب الفلسفة ومذاهب الإعتزال والنجوم، وأخذ من الكتب ما سوى ذلك مائة حمل.
وتحصن منه منوجهر بن قابوس بن وشمكير بجبال حصينة، وعرة المسالك، فلم يشعر إلا وقد أطل عليه يمين الدولة، فهرب منه إلى غياض حصينة، وبذلك خمسمائة ألف دينار ليصلحه، فأجابه إلى ذلك، فأرسل المال إليه، فسار عنه إلى نيسابور.
ثم توفي منوجهر عقيب ذلك، وولي ابنه أنوشروان، فأقره محمود على ولايته، وقرر عليه خمسمائة ألف دينار أخرى، وخطب لمحمود في أكثر بلاد الجبل إلى حدود أرمينية، وافتتح ابنه مسعود زنجان وأبهر، وخطب له علاء الدولة بأصبهان، وعاد محمود إلى خراسان واستخلف بالري ابنه مسعوداً، فقصد أصبهان، وملكها من علاء الدولة، وعاد عنها، واستخلف بها بعض أصحابه، فثار به أهلها فقتلوه، فعاد إليهم فقتل منهم مقتلة عظيمة نحو خمسة آلاف قتيل، وسار إلى الري فأقام بها.

.ذكر ما فعله السالار إبراهيم بن المرزبان بعد عود يمين الدولة عن الري:

هذا السالار هو إبراهيم بن المرزبان بن إسماعيل بن وهسوذان بن محمد ابن مسافر الديلمي، وكان له من بلاد سرجهان، وزنجان، وأبهر، وشهرزور، وغيرها، وهي ما استولى عليها بعد وفاة فخر الدولة بن بويه. فلما ملك يمين الدولة محمود بن سبكتكين الري سير المرزبان بن الحسن بن خراميل، وهو من أولاد ملوك الديلم، وكان قد التجأ إلى يمين الدولة، فسيره إلى بلاد السالار إبراهيم ليملكها، فقصدها واستمال الديلم، فمال إليه بعضهم.
واتفق عود يمين الدولة إلى خراسان، فسار السالار إبراهيم إلى قزوين، وبها عسكر يمين الدولة، فقاتلهم، فأكثر القتل فيهم، وهرب الباقون، وأعانه أهل البلد، وسار السالار أيضاً إلى مكان بقرب سرجهان تطيف به الأنهار والجبال فتحصن به. فسمع مسعود بن يمين الدولة، وهو بالري، بما فعل، فسار مجداً إلى السالار فجرى بينهما وقائع كان الاستظهار فيها للسالار.
ثم إن مسعوداً راسل طائفة من جند السالار، واستمالهم، وأعطاهم الأموال فمالوا إليه، ودلوه على عورة السالار، وحملوا طائفة من عسكره في طريق غامضة، حتى جعلوه من ورائهم، وكبسوا السالار أول رمضان، وقاتله مسعود من بين يديه، وأولئك من خلفه، فاضطرب السالار ومن معه، وانهزموا وطلب كل إنسان منهم مهرباً، واختفى السالار في مكان، فدلت عليه امرأة سوادية، فأخذه مسعود وحمله إلى سرجهان، وبها ولده، فطلب منه أن يسلمها، فلم يفعل، فعاد عنها وتسلم باقي قلاعه وبلاده، وأخذ أمواله، وقرر على ابنه المقيم بسرجهان مالاً، وعلى كل من جاوره من مقدمي الأكراد، وعاد إلى الري.

.ذكر ملك أبي كاليجار مدينة واسط ومسير جلال الدولة إلى الأهواز ونهبها وعود واسط إليه:

في هذه السنة صعد الملك أبو كاليجار إلى مدينة واسط فملكها، وكان ابتداء ذلك أن نور الدولة دبيس بن علي بن مزيد، صاحب الحلة، والنيل، ولم تكن الحلة بنيت ذلك الوقت، وخطب لأبي كاليجار في أعماله.
وسببه أن أبا حسان المقلد بن أبي الأغر الحسن بن مزيد كان بينه وبين نور الدولة عداوة، فاجتمع هو ومنيع أمير بني خفاجة، وأرسلا إلى بغداد يبذلان مالاً يتجهز به العسكر لقتال نور الدولة، فاشتد الأمر على نور الدولة، فخطب لأبي كاليجار، وراسله يطمعه في البلاد.
ثم اتفق أنه ملك البصرة، على ما ذكرناه، فقوي طمعه، فسار من الأهواز إلى واسط، وبها الملك العزيز بن جلال الدولة، ومعه جمع من الأتراك، ففارقها العزيز وقصد النعمانية، ففجر عليه نور الدولة البثوق من بلده، فهلك كثير من أثقالهم، وغرق جماعة منهم، وخطب في البطيحة لأبي كاليجار، وورد إليه نور الدولة.
وأرسل أبو كاليجار إلى قرواش، صاحب الموصل، وعنده الأثير عنبر، يطلب منه أن ينحدر إلى العراق ليبقى جلال الدولة بين الفريقين، فانحدر إلى الكحيل، فمات به الأثير عنبر، ولم ينحدر معه قرواش، وجمع جلال الدولة عساكره، واستنجد أبا الشوك وغيره، وانحدر إلى واسط، ولم يكن بين العسكرين قتال، وتتابعت الأمطار حتى هلكوا.
واشتد الأمر على جلال الدولة لفقره، وقلة الأموال وغيرها عنده، فاستشار أصحابه فيما يفعل، فأشاروا أن يقصدوا الأهواز وينهبها، ويأخذ ما بها من أموال أبي كاليجار وعسكره.
فسمع أبو كاليجار ذلك، فاستشار أيضاً أصحابه، فقال بعضهم: ما عدل جلال الدولة عن القتال إلا لضعف فيه، والرأي أن تسير إلى العراق فتأخذ من أموالهم ببغداد أضعاف ما يأخذون منا، فاتفقوا على ذلك، فأتاهم جاسوس من أبي الشوك يخبر بمجيء عساكر محمود بن سبكتكين إلى طخر، وأنهم يريدون العراق، ويشير بالصلح، واجتماع الكلمة على دفعهم عن البلاد. فأنفذ أبو كاليجار الكتاب إلى جلال الدولة، وقد سار إلى الأهواز، وأقام ينتظر الجواب، ظناً منه أن جلال الدولة يعود بالكتاب، فلم يلتفت جلال الدولة، ومضى إلى الأهواز فنهبها، وأخذ من دار الإمارة مائتي ألف دينار، وأخذوا ما لا يحصى، ودخل الأكراد والأعراب وغيرهم إلى البلد، فأهلكوا الناس بالنهب والسبي، وأخذت والدة أبي كاليجار وابنته وأم ولده وزوجته، فماتت أمه وحمل من عداها إلى بغداد.
ولما سمع أبو كاليجار الخبر سار ليلقى جلال الدولة، فتخلف عنه دبيس ابن مزيد، خوفاً على أهله وحلله من خفاجة، والتقى أبو كاليجار وجلال الدولة آخر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين، فاقتتلوا ثلاثة أيام، وانهزم أبو كاليجار، وقتل من أصحابه ألفا رجل، ووصل إلى الأهواز بأسوأ حال، فأتاه العادل بن مافنة بمال، فحسنت حاله.
وأما جلال الدولة فإنه عاد واستولى على واسط، وجعل ابنه العزيز بها، وأصعد إلى بغداد، ومدحه المرتضى ومهيار وغيرهما، وهنأوه بالظفر.

.ذكر حال دبيس بن مزيد بعد الهزيمة:

لما عاد دبيس بن مزيد الأسدي، وفارق أبا كاليجار، وصل إلى بلده، وكان قد خالف عليه قوم من بني عمه، ونزلوا الجامعين، وأتاهم وقاتلهم، فظفر بهم، وأسر منهم جماعة منهم شبيب، وسرايا، ووهب، بنو حماد بن مزيد، وأبو عبد الله الحسن بن أبي الغنائم بن مزيد، وحملهم إلى الجوسق.
ثم إن المقلد بن أبي الأغر بن مزيد وغيره اجتمعوا معهم عسكر من جلال الدولة، وقصدوا دبيساً وقاتلوه، فانهزم منهم، وأسر من بني عمه خمسة عشر رجلاً، فنزل المعتقلون بالجوسق، وهم شبيب وأصحابه، إلى حلله فحرسوها، وسار دبيس منهزماً إلى السندية، إلى نجدة الدولة أبي منصور كامل بن قراد، فاستصحبه إلى أبي سنان غريب بن مقن، حتى أصلح أمره مع جلال الدولة وعسكره، وتكفل به، وضمن عنه عشرة آلاف دينار سابورية إذا أعيد إلى ولايته، فأجيب إلى ذلك، وخلع عليه.
فعرف المقلد الحال ومعه جمع من خفاجة فنهبوا مطيراباذ، والنيل، وسورا، أقبح نهب، واستاقوا مواشيها، وأحرقوا منازلها، وعبر المقلد دجلة إلى أبي الشوك، وأقام عنده إلى أن أحكم أمره.

.ذكر عصيان زناتة ومحاربتهم بإفريقية:

في هذه السنة تجمعت زناتة وعاودت الخلاف على المعز بإفريقية، فبلغ ذلك المعز، فجمع عساكره وسار إليهم بنفسه، فالتقوا بموضع يعرف بحمديس الصابون، ووقعت الحرب بين الطائفتين، واشتد القتال، فانهزمت زناتة وقتل منهم عدد كثير، أسر مثلهم، وعاد المعز ظافراً غانماً.

.ذكر ما فعله يمين الدولة وولده بعده بالغز:

في هذه السنة أوقع يمين الدولة بالأتراك الغزية، وفرقهم في بلاده، لأنهم كانوا قد أفسدوا فيها، وهؤلاء كانوا أصحاب أرسلان بن سلجوقي التركي، وكانوا بمفازة بخارى، فلما عبر يمين الدولة النهر إلى بخارى هرب علي تكين صاحبها منه، على ما نذكره.
وحضر أرسلان بن سلجوق عند يمين الدولة، فقبض عليه وسجنه ببلاد الهند، وأسرى إلى خركاهاته، فقتل كثيراً من أصحابه، وسلم منهم خلق كثير، فهربوا منه ولحقوا بخراسان فأفسدوا فيها، ونهبوا هذه السنة، فأرسل إليهم جيشاً فسبوهم وأجلوهم عن خراسان، فسار منهم أهل ألفي خركاة، فلحقوا بأصبهان، فكتب يمين الدولة إلى علاء الدولة بإنفاذهم، أو إنفاذ رؤوسهم، فأمر نائبه أن يعمل طعاماً ويدعوهم إليه ويقتلهم، فأرسل إليهم وأعلمهم أنه يريد إثبات أسمائهم ليستخدمهم، وكمن الديلم في البساتين، فحضر جمع كثير منهم، فلقيهم مملوك تركي لعلاء الدولة، فأعلمهم الحال، فعادوا، فأراد نائب علاء الدولة أن يمنعهم من العود، فلم يقبلوا منه، فحمل ديلمي من قواد الديلم على إنسان منهم، فرماه التركي بسهم فقتله.
ووقع الصوت بذلك، فخرجت الديلم وانضاف إليهم أهل البلد، فجرى بينهم حرب، فهزموهم، فقلع الترك خركاهاتهم وساروا، ولم يجتازوا على قرية إلا نهبوها إلى أن وصلوا إلى وهسوذان بأذربيجان، فراعاهم وتفقدهم.
وبقي بخراسان أكثر ممن قصد أصبهان، فأتوا جبل بلجان وهو الذي عنده خوارزم القديمة، فنزل كثير منهم من الجبل إلى البلاد، فنهبوا وأخربوا وقتلوا، فجرد محمود بن سبكتكين إليهم أرسلان الجاذب، أمير طوس، فسار إليهم، ولم يزل يتبعهم نحو سنتين في جموع كثيرة من العساكر، فاضطر محمود إلى قصد خراسان بسببهم، فسار يطلبهم من نيسابور إلى دهستان، فساروا إلى جرجان، ثم عاد عنهم، وجعل ابنه مسعوداً بالري، على ما ذكرناه، فاستخدم بعضهم وقدمهم يغمر.
فلما مات محمود بن سبكتكين سار مسعود ابنه إلى خراسان وهم معه، فلما ملك غزنة سألوه فيمن بقي منهم بجبل بلجان، فأذن لهم في العود على شرط الطاعة والاستقامة.
ثم إن مسعوداً قصد بلاد الهند عند عصيان أحمد ينالتكين، فعاودوا الفساد، فسير تاش فراش في عسكر كثير إلى الري لأخذها من علاء الدولة، فلما بلغ نيسابور، ورأى سوء فعلهم، دعا مقدميهم، وقتل نيفاً وخمسين رجلاً، فيهم يغمر، فلم ينتهوا، وساروا إلى الري.
وبلغ مسعوداً ما هم عليه من الشر والفساد، فأخذ حللهم وسيرها إلى الهند، وقطع أيدي كثير منهم وأرجلهم وصلبهم.
هذه أخبار عشيرة أرسلان بن سلجوق، وأما أخبار طغرلبك، وداود، وأخيهما بيغو، فإنهم كانوا بما وراء النهر، وكان من أمرهم ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى لأنهم صاروا ملوكاً تجيء أخبارهم على السنين.
ولما وقع تاش فراش حاجب السلطان مسعود بالغز ساروا إلى الري يزعمون أنهم يريدون أذربيجان، واللحاق بمن مضى منهم أولاً هناك، ويسمون العراقية، وكان اسم أمراء هذه الطائفة كوكتاش، وبوقا، وقزل، ويغمر، وناصغلي، فوصلوا إلى الدامغان، فخرج إليهم عسكرها وأهل البلد ليمنعوهم عنه، فلم يقدروا، فصعدوا الجبل وتحصنوا به، ودخل الغز، البلد ونهبوه، وانتقلوا إلى سمنان ففعلوا فيها مثل ذلك، ودخلوا خوار الري ففعلوا مثله، ونهبوا إسحاق آباذ وما يجاورها من القرى، وساروا إلى مشكويه من أعمال الري فنهبوها.
وتجهز أبو سهل الحمدوني، وتاش فراش، وكاتبا الملك مسعوداً، وصاحب جرجان وطبرستان بالحال، وطلبا النجدة، وأخذ تاش ثلاثة آلاف فارس، وما عنده من الفيلة والسلاح، وسار إلى الغز ليواقعهم، وبلغهم خبره، فتركوا نساءهم، وأموالهم، وما غنموا من خراسان، وهذه البلاد المذكورة، وساروا جريدة، فالتقوا فركب تاش الفيل، ووقعت الحرب بين الفريقين، فكانت أولاً لتاش، ثم إن الغز أسروا مقدم الأكراد الذين مع تاش، وأرادوا قتله، فقال لهم: استبقوني حتى آمر الأكراد الذين مع تاش بترك قتالهم، فتركوه، وعاهدوه على إطلاقه، فأرسل إلى الأكراد يقول لهم: إن قاتلتم قتلت، ففتروا في القتال.
وحملت الغز، وكانوا خمسة آلاف، على تاش فراش وعسكره، فانهزم الأكراد، وثبت تاش وأصحابه، فقتل الغز الفيل الذي تحته فسقط، فقتلوه وقطعوه أخذاً بثأر من قتل منهم، وقتل معه عدد كثير من الخراسانية، وأكابر القواد، وغنموا بقية الفيلة، وأثقال العسكر، وساروا إلى الري فاقتتلوا هم وأبو سهل الحمدوني ومن معه من الجند وأهل البلد، فصعد هو ومن معه قلعة طبرك، ودخل الغز البلد، ونهبوا عدة محال نهباً اجتاحوا به الأموال، ثم اقتتلوا هم وأبو سهل، فأسر منهم ابن أخت ليغمر أمير الغز، وقائداً كبيراً من قوادهم، فبذلوا فيهما إعادة ما أخذوا من عسكر تاش، وإطلاق الأسرى، وحمل ثلاثين ألف دينار، فقال: لا أفعل إلا بأمر السلطان.
وخرج الغز عن البلد، ووصل عسكر من جرجان، فلما قربوا من الري سار إليهم الغز فكبسوهم، وأسروا مقدمهم، وأسروا معه ألفي رجل، وانهزم الباقون وعادوا، وكان هذا سنة سبع وعشرين وأربعمائة.